اللص والكلاب الفن الروائي اللص والكلاب
قراءة أولية
الفن
الروائي :
هل تعتبر الأشكال السردية الحكائية القديمة أنماطا روائية تراثية
بمقياسنا العربي الأصيل، لا بمفاهيم الرواية الأوربية الحديثة ؟ هذا سؤال مؤجل ،
إنما تجدر الإشارة إليه للتأكيد على أن السرد ليس غربي الجنسية بالضرورة، بل يمكن
تلمس كثير من خصوصيات السرد المعاصر في خطابات الحكي العربي في العصر الوسيط خاصة ،
سواء في الشرق أو في الغرب العربي.( كليلة ودمنة ، ألف ليلة وليلة، حي بن يقظان، ،
ورسالة الغفران).
ولعل اختلال توازن العلاقة بين قوة وضعف، بين ريادة وتبعية ،
على المستوى السياسي والاقتصادي والعلمي ، كانت وراء تنامي الإحساس بالانفصال عن
التراث الأدبي والفني القديم ، بما يشكله من مصدر إبداعي و إشعاع ثقافي مرتبط
بالهوية والذات ، ومعبر عن الرؤية للعالم والوجود، فحدثت القطيعة الإبداعية
والانفصام على مستوى التخييل الحكائي والإبداع السردي.
إلا أن الرواية كفن أدبي
، ما زالت حتى في الغرب نفسه ، تثير خلافات حول تعريفها ، تطورت أكثر مع ظهور
نظريات التجنيس الأدبي والتي وصل بعضها إلى إلغاء الحدود بين أشكال النثر الفني ،
بل وبين النثري و الشعري أحيانا ، فعادت إلى الواجهة أبسط تعريفاتها ، والتي ظلت
تعتبرها عملا أدبيا نثريا ، يستسيغ تقديم صورة دينامية للعلاقات الإنسانية
المتشابكة داخل مجتمع ما ، في اتجاه تمثيل الواقع الحقيقي أو المتخيل ، عبر مرآة
تفسر ذلك الواقع بقدر ما ترسم ملامح آفاقه ، بعد رصد مختلف مظاهره والنفاذ إلى
الخفي من العوامل المتحكمة في وجوده ، بحثا عن الارتقاء بالصراع إلى مستوى التعبير
عن حاجات وضرورات التواؤم والتناسب مع الذات والظروف ، من منظور المؤلف
الروائي و
رؤيته للعالم.
ثمة إجماع أولي على ربط البداية السردية باللغة العربية ، بأوائل
القرن العشرين، مع رواية" زينب" لمحمد حسين هيكل، ذلك أنها شكلت في بنيتها الفنية و
المضمونية ، امتدادا للرواية التاريخية والرومانسية والواقعية ، كما قدمها الرواد
من فلوبير و زولا و بلزاك و دويستفسكي. قبل أن تظهر أعمال قصصية وروائية، متأثرة
بالرؤية الغربية للسرد ، ومنشغلة بتياراتها الفنية المرتبطة أساسا بتطور الوعي
وتغير المجتمع الأوروبي أو الأمريكي، وما عرفه العالم من تحولات منذ الحرب العالمية
الأولى .
وقد تنوعت الكتابات السردية باللغة العربية من المحيط إلى الخليج ،
متفاعلة مع ظروفها الموضوعية اجتماعيا وسياسيا ، ومتأثرة بما تحقق لديها من تحصيل
معرفي وثقافي ، بمناهج ومعارف تفاعلت معها المجتمعات العربية بين مد و جزر، بين مد
فيه رهن الجهود الروائية بالانفتاح المطلق والتبعية في التقليد للأنماط الأوربية
خاصة ، وجزر فيه حرص على تفادي الوقوع في الاغتراب الفني بعد الاستلاب الفكري
والحضاري ، وذلك بمحاولة خلق صيغ تعبيرية حكائية تنسجم مع الحاجات وتستجيب للتطلعات
دون انفصال عن الذات والهوية ، أو قطيعة مع الغرب في بعده الإشعاعي .
وقد يكون
نجيب محفوظ، أكثر الروائيين العرب تمثلا لهذا المسار التطوري في العلاقة السردية
بين مختلف مراحل التجربة الروائية العربية . لكونه ابتدأ تاريخيا وانتهى تراثيا ،
بعدما مر بمراحل روائية ، تعكس وعيه الفني بالشكل القصصي الذي كان يبحث عنه أو
يراهن عليه ، على مدى خمسة وتسعين عاما من عمره (1911 - 2006)، وفي هذا الصدد يؤكد
جورج طرابيشي أن أعمال نجيب محفوظ ينطبق عليها بشكل خاص، قانون التطور المتفاوت
والمركب، فقد بدأ بالرواية التاريخية في "كفاح طيبة" و"رادوبيس" وغيرها، وانتقل إلى
الرواية الواقعية متوجا ذلك بالثلاثية ، ثم بدأ انطلاقا من "اللص والكلاب" يطور
أشكالا أخرى وصولا إلى توظيف التراث في الرواية.
ولد محفوظ عام 1911 في القاهرة
وتخرج من جامعتها في شعبة الفلسفة، فعاصر تبعات التحولات السياسية التي شهدها
المجتمع المصري ، بحثا عن الحرية في مواجهة أشكال النفي والتهميش ، سواء مثلها
الاستعمار الأجنبي أو جسدتها السلطة المحلية ، وقد وجد في الكتابة السردية أداة
للتعبير عن مواقفه ، من خلال التفنن في تصوير الحياة العامة بمختلف طبقاتها
الاجتماعية والاقتصادية، وتنوع انتماءاتها الفكرية والدينية والسياسية ، دون أن
يعني ذلك انفصاله عما ظل يشغله من هموم وجودية كونية ذات بعد إنساني ، تمثلت خاصة
في استدراج القارئ العربي إلى قضايا فلسفية تلامس السؤال الميتافزيقي ، مستفيدا في
تشكيل نصوصه القصصية والروائية ، من الاتجاهات الروائية الغربية المعاصرة ، و خاصة
منها ما كان يتصل باهتماماته التاريخية و الواقعية والنفسية.
وبعد رحلة استغرقت
حوالي ستين عاما من الكتابة الإبداعية السردية ، توجت بالحصول على جائزة نوبل
للآداب عام 1988 ، توفي فجر يوم 31/ 8 /2006 في القاهرة ، عن عمر يناهز 95
عاما.
السياق
الروائي :
يصنف النقاد رواية ''اللص
والكلاب '' ضمن تجربة نجيب
محفوظ الدرامية أو ما يصطلح عليه عامة بالواقعية الجديدة و قد وجد البعض في هذه
المرحلة ما يمكن اعتباره نصوصا روائية ذات عمق فلسفي ، بعدما بدأت تظهر بوضوح ملامح
البطل الإشكالي ، وهو يواجه الواقع بوعيه الشقي متأرجحا بين إكراهات الواقع و أحلام
التحول والتغيير من منطلقات مثالية شكلت فيها المعرفة مصدر عذابه وشقائه ، بدءاً من
'' أولاد حارتنا '' التي ظلت ممنوعة التداول في مصر لزمن قريب ، إلى ''ثرثرة فوق
النيل''، سنة 1966 ، مروراً بــ ''اللص والكلاب'' سنة 1961؛ و''السمان''
و''الخريف''، سنة 1962؛ و'' الطريق''، سنة 1964؛ و''الشحاذ''، سنة 1965.
وقد
ارتبط ظهور رواية ''اللص
والكلاب ''، بالتحولات التي عاشها المجتمع المصري في أعقاب
ثورة الضبط الأحرار على الملكية ، إذ رصدت الواقع النفسي للفرد ، بين الثبات على
القيم والتحول عنها إلى بدائل ذهنية و سلوكية ذهنية ، تطبعها الانتهازية وسيادة
المكر والخديعة ، بين أقرب الناس بعضهم البعض ، وقد تحرك الصراع المحموم من أجل
بلوغ أهداف شخصية ضيقة ، في تناقض تام مع مبادئ الثورة و وعودها بإعادة التوازن
لحياة المجتمع اقتصاديا وسياسيا ،الشيء الذي سيفسح المجال لبروز قوى فاعلة تمثل
مختلف تلك التناقضات ، من مواقع انتماءاتها الاجتماعية والفكرية ، كي تعبر عن نفسها
بمنطق الممارسة الفردية ، كانعكاس مباشر أو غير مباشر، لفشل الثورة في تمثل أحلام
الناس البسطاء وتطلعاتهم ، فما زالت صورة الغنى الفاحش بموازاة الفقر الفاحش، وما
زالت ملامح العوالم السفلية للمجتمع ، تعيش مرارة الطبقية، فتلجأ إلى اللصوصية
لاسترداد حقوقها أو إلى الدعارة لتحقيق حاجاتها ، بينما تبقى الطبقة التي تستغل
أمثال ''سعيد مهران'' أو تستنزف ''نور'' ، هي نفسها التي كانت مدعاة للتغيير في
النظام السياسي بحثا عن توازن النظام الاجتماعي والاقتصادي .
و يمثل نجيب محفوظ
ظاهرة متميزة على المستوى
الروائي العربي ، بما وفّره لنصوصه السردية من عمق في
الوصف والتحليل للواقع والشخصيات ، تجاوز الغوص في عرض تفاصيل معاناة المجتمع
المصري المادية والسيكولوجية ، إلى رسم معالم المعاناة الإنسانية في بعدها الوجودي
، حين تكون المأساة ناجمة عن صراع غير متكافئ بين قوى دافعة وأخرى مانعة ، تحول دون
التطور الطبيعي للتعبير عن الإرادة الإنسانية فرديا وجماعيا ، تماما كما وقع مع
سعيد مهران في
اللص والكلاب .
قد تبدو الرواية ممعنة في كلاسيكية بنائها الفني ،
من حيث قيامها على المكونات التقليدية في السرد الواقعي ، لكنها لا تبدو حريصة على
احترامها لهرمية البناء الثلاثي الأبعاد من بداية وعقدة وحل ، وذلك بانطلاقها من
نقطة في الزمان تبحث عن التطور إلى الأمام ، مع ما يستدعيه ذلك من استرجاعات تضيء
مسار تنامي الأحداث ، وتغني المعرفة بتكوين الشخصيات الاجتماعي والبيئي والاقتصادي
، اعتمادا على الحوارات الداخلية وما يكشف عنه تيار الوعي ، باعتباره تمثلات ذهنية
للقوى الفاعلة ، قد تكون معبرة في كثير من الأحيان عن رؤية السارد / المؤلف
.
ولعل ذلك ما يجعل القارئ أكثر ميلا إلى عدم الاطمئنان لتلك التصنيفات النقدية
التي وضعت الرواية في خانة الرواية الواقعية تارة والرواية الفلسفية تارة أخرى، إلا
إذا كان ذلك مرتبطا بالطابع التحليلي الذي يطغى عليها ، سواء على مستوى الأحداث أو
على مستوى الشخصيات ، بتوقفها عند كثير من التفاصيل الجزئية للبنية النفسية المتصلة
بتكوين و تركيب الشخصية وما تعيشه من انفعالات تتحكم في مسار الصراع داخل الرواية .